أدركنا تماماً أن مايشغلنا هو معرفتنا بمدى سوء خواتيمنا، في ليلة ربيعية كئيبة كتلك لن ينفع معها صوت محمد عمران، لأنه أخذ على نفسه عهداً أن يردد: “أنا راضي” لأكثر من مرة، في أحد المرات قد تستطيع أن تحبس شهيقك لمدة ثلاث مرات وتخرج زفيرك أيضاً ثلاث مرات؛ بينما أخذ هو على نفسه مشقة أن يمد في جملته التالية: “أنا راضي” والتي كانت “أنا راضي” أيضاً.
حسناً، لم ينفعنا هو أيضاً وقتها، حتى ولو تفوق علينا في مسابقة حبس النفس، التي نستمر في اختراعها كلما استمعنا إليه.
أخذنا على عاتقنا أن نتورط في بؤسنا بشكل لا يليق معه التنصل، زرعنا أنفسنا بجانب من تورطوا معنا، واجتمعنا لا نقوى على أن نحكي حكاياتنا، لأننا وبغير صدفة من المحتمل أن نكون قد تشاركنا نهاياتها، وكنا على كلمة سواء.
خشينا أن ننسى الحكايات فهرعنا ندونها، عسى أن يقرأها من لم يكن معنا وقتها.
ولأن النهايات من المحتمل أنها متشابهة، فلنكن أكثر رأفة بالبدايات، ونحكيها على مهل، لا مانع أيضاً من بعض الاستطراد، وقد نحاول جاهدين أن نخلق منها ملحمة، وقد نتخلى عن بعض وقارنا المصطنع، وقد نحكي أننا يوماً ما استطعنا أن نبكي، وقد نبالغ ونقول ذرفنا الدموع.
أبي كان من عشاق كات ستيفنز، لربما كانت أغانيه هي آخر ما دار في خلده لأنه بعدها انضم إلى الجماعة في أواخر السبعينيات بكاليفورنيا.
أثناء محاولته جاهداً أن يتجنب مصيراً مؤسفاً، قرّر أن العودة أسلم، وهكذا حرمت من ميزة كانت من الممكن أن تكون بمثابة باباً للخروج، لم أحمل الجنسية المزدوجة كباقي إخوتي.
كنت في الرابعة من عمري وقتها، كنا نسرق دقيقتين أو أكثر قليلاً لمشاهدة التلفاز -المحرم اللهم إلا من نشرات الأخبار- وكانتا كافيتين لجعل أغنية نور العين، هي المفضلة للطفل الذي كنته.
لم يمتلك أحد الإخوة الستة الإيمان الكافي لكسر قواعد الوالد الصارمة، لذا تحايلوا ولجؤوا إلى حيلة الأخ الأصغر المدلل الذي يفعل ما يشاء ويفلت من العقاب، إلا أنني لم أفلت بشكل كامل وكنت دائماً مستمتعاً بأداء دوري المهم.
العام 1999 رجع أبي من نيويورك، وأحضر لي بدلة غطس بالرغم من درايته الكاملة بمكان سكننا بأسيوط، المحروم تماماً من السواحل بكافة أشكالها!
نور العين ما زالت تسيطر عليّ بشكل كامل، بدأت في التحدث عنها أمام الجميع، حتى إنني بدأت في ترديدها جهاراً نهاراً بلا خوف، الكلمات تنساب من فمي بلا سيطرة، أردد حتى جمل الأكورديون في الأغنية وأخرجها بنغمات طفولية.
فاطمة رفيقة أختي أدركت شغفي ونسخت لي نسخة (كاسيت) من الشريط، ربما لهذا السبب امتلكت عقدة نسخ الشرائط الموجودة لدي بالفعل بدون سبب واضح.
تجمعت أنا وإخوتي الستة في غرفة تأكدنا من إغلاقها جيداً لنستمع لألحان عمرو دياب ولم يتخلف أحدنا.
لم يحتمل الأمر بعدها التواري، وأعلن عن نفسه وفضحنا شغفنا، فتم إلحاقي بفرقة إنشاد تابعة للإخوان للتغلب على مجوني الواضح!
العام 2000 يبدو مجيداً، استعارت أختي الكبرى شريط سحراني لإيهاب توفيق ليرافقنا خلال رحلة المصيف، وجلسنا نحن السبعة نسمعه ونتعاقب عليه ليل نهار حتى إننا اكتشفنا أن أخي عبد الرحمن امتلك شريطاً لنوال الزغبي لتصبح ممتلكاتنا ثلاثة شرائط بعد أن ناضلت للاحتفاظ بنور العين.
تسربت الأخبار سريعاً،يبدو أنه لدينا واش، الرقابة شُدّدت للحد الأقصى واختفت الشرائط جميعها.
كانت تلك مرة من المرات النادرة التي تدخل فيها الشمس بيتنا، أذكر جيداً كيف أنها صبغت الحائط الأخضر بلون أصفر باهت، شموس صغيرة رسمتها كريستالة رحاب أختي على الحائط المجاور، كان الشريط أصفر اللون، دخلت به أختي الأخرى، أهدته إياها مدرستها، الكتابة كانت بالحبر الجاف الأزرق، أتذكرها جيداً “أبتاه.. عماد رامي” بخط منمق، ظللنا نستمع إليه وكان مزعجاً للغاية وصوت عماد لا يُحتمل بالفعل، حتى أتت الأغنية الثالثة في الوجه الثاني، لم أكن أصدق في البداية، بقيت أعيد العشرين ثانية الأولى آلاف المرات، حتى إنني ناديت أمي لتتأكد أن ما أسمعه حقيقي، بدأت الأغنية بثلاث ضربات على الدف تبعتها هزة وتر واحدة على استحياء لجيتار، ظللت أكررها، قفزت من الفرحة، ظللت أكرر سماع العشرين ثانية بلا توقف خلال أسبوع متواصل، كثيراً يتخلل السماع دموع منهمرة كشلال من طفل صغير، كانت تلك الهزة، تحمل لنا طوق نجاة، تقول ما لم تستطع قوله كل الأناشيد السابقة لها، تغاضينا عن نشاز صوته، تغاضينا عن ركاكة الكلمات، سمعنا هزة الوتر، وأدركنا أنها حقيقة، وتعلقنا بها مستسلمين.
هذا ماحدث لنا بعدما صار لدينا أمل، ولكننا الآن نلاحق الحكايات قبل احتضارها، وندونها، ونطلق عليها ملحمة.
..نشيد عماد رامي..
ليست هناك تعليقات