لماذا لا يجعل الكتاب العرب منازلهم بيوتاً للخيال؟
دل نحلم حقاً بمجتمع قارئ؟ دائماً ما يردد هذه الأمنية أغلب الكُتَّاب في العالم العربي، لكن هل تتوقف الأحلام على الأمنيات؟ هذا ما يجعلنا نسأل ما الذى فعلناه من أجل تحقيق هذه الأحلام أو هذه الأمنية على وجه التحديد؟
قبل عام، كنتُ قد تعرفت على تجربة جديدة خاصة بعالم الكتابة، مثل الورشات التي انتشرت مؤخراً، واتجه لتكوينها عدد من الشباب المبدعين، سواء أكانت مجانية أم بالاشتراك بأجرٍ رمزي. إلا أن هذه التجربة كانت جديرة بالاهتمام والمتابعة، وذلك لعدة أسباب لا يمكن إغفالها، أولها أن مؤسسها هو كاتب ورائي معروف في عالمنا العربي، وخاصة لدى كبار الكتاب والنقاد، وهو الكاتب التونسي كمال الرياحي المولود عام 1974.
حينها فكرت في أسماء الكُتَّاب العرب ممن أسسوا أو كونوا خلال هذه الفترة ورشات للكتابة يشرفون عليها بأنفسهم، فى ظل انتشار وتضخم عدد دور النشر، والكم المتزايد من الإصدارات التى نسمع عنها بشكل يومي، وخاصة للشباب، مع استمرار الحكم على هذه الكتابات الأدبية ووصفها بالتجارب؛ إلا أن أحداً لم يفكر في كيفية الارتقاء بأسلوب ولغة ومخيلة أصحاب هذه الكتب على اختلاف أشكال ما يقدمونه، بدلاً من البكاء على الورق المهدور.
كانت تجربة كمال الرياحي جديرة بالالتفات إليها، بدلاً من متابعة جديد الثقافة على مواقع الصحافة العربية، فما أن يومض اسمها بيت الخيال أمام عينيك، ستحبس أنفاسك حينما تُقرع بداخلك طبول الشغف وأن تقرأ مفتتح الموقع الإلكتروني للورشة المقتبس من مقولات الكاتب والمخرج الأميركي المولود عام 1947 بول أوستر: “إننا بحاجة للقصص بقدر حاجتنا للطعام والهواء والماء والنوم، القصص هي الطريقة التي من خلالها ننظم ونرتب الواقع”.
حينئذ ستدرك أنك أمام تجربة جديدة، وأنت تطالع بتمعن نص “المانيفستو” الذي يجيب على تساؤل: لماذا بيت الخيال؟ وكيف لهذا النص القدرة السحرية على إيقاظ شهوة الحكي والكتابة لديك.
“كلّما تأزّم الواقع اتّسعت رقعة الإبداع. في عالمنا الجديد، لم يعد ثمّة مكان لكتّاب يصنعهم القدر وكتّاب تصقلهم موهبة فطريّة، كلّنا كتّاب مبتدؤون، نعيشُ شهوة الكلام، ونحمل حكايات وقصصاً في مخزون مركّب شديد الحساسيّة، بعضنا يحالفه الحظّ والصدفة ليصيرَ كاتباً، وبعضنا يكفّ عن التفكير. وبين هذا الرهط وذاك تأتي وظيفة التدريب على الكتابة لتغربلَ التجارب، وتكتشف مواهب جديدة، وتخلق عالماً حميمياً بين النصّ وصاحبه وبين صاحب النصّ والقرّاء، تقوّم نصوصاً مبتدئة وتدرس بعناية فائقة وفق طرائق وتقنيّات سرديّة رشيقة توفّرها الورشة”.
إنني لو لم أكن مصرياً لوددت أن أكون تونسيًا. وإذا كان الله يبغض الحقد، فإن الغيرة فطرة إنسانية، نعم. تمنيت ذلك. أن تتاح لي الفرصة للمشاركة في بيت الخيال الذي يعمل على تفجير المتعة الكامنة في ممارسة الذّات لعوالم الكتابة وسرقة مفاتيح اللذة من الآخرين والتحرر من استبداد التعريفات للأدب النخبويّ، واكتشاف مواهب الآخرين من خلال إخضاع أعمالهم باستمرار للنقد وهو الدور الذي تلعبه الشاعرة والمترجمة الفلسطينية ريم غنايم كناقدة للنصوص التي تخلق بين جدران الورشة.
ليس هذا فقط هو ما يستحق الالتفات إليه في تجربة هذه الورشة، فخصوصيتها تكمن فيما دشنه كمال الرياحي ليكون بمثابة بذرة في أرض خصبة تأمل في أن تجد بيئة مناسبة لتتكاثر في أماكن مختلفة من أنحاء العالم العربي، فما فعله صاحب رواية المشرط الحائزة على جائزة الكومار الذهبي لأفضل رواية تونسية لعام 2007، هو أن خصص حجرة في منزله، وفتح بابها ونوافذها على مصراعيها لتستقبل كافة من مسّهم شغف الحكايات ونشوة البوح، ليكونوا في ضيافته بشكلٍ دوري يعلن عنه عبر موقع الورشة من خلال عدد محدود؛ ليتمكن بيت الخيال من استيعابهم وتوفير المناخ اللائق ليطلقوا عنان الخيال.
“نحاول أن نكسر الحدود بين الثنائيّات المفتعلة: المركزي والهامشي، الرقمي والورقي، الواقعي والافتراضي، المحلي والكوني، ونلمّ الجميعَ إلى مأدبة الأدب والكتابة، كعادةِ الشعوب الأخرى التي تعالَت على هذه الثنائيّات وخلقت أدباً جديداً بأدوات جديدة ناسبت صوت العصر وإيقاعاته الملوّنة. لقد أثبتت دورات الكتابة نجاحها كتجربة دخلت أبواب الأكاديميّات الغربيّة وحان الوقت للالتحاق بها في مجتمعاتنا”.
وفي منتصف مارس من هذا العام، أتيح لي أن ألتقي بالروائي كمال الرياحي، خلال استضافته ضمن فعاليات ملتقى القاهرة الدولي للرواية العربية، في دورته السادسة، والتي عقدت في المجلس الأعلى للثقافة، بدار الأوبرا المصرية، وأطلق اسم الروائي المصري الراحل فتحي غانم (1924 – 1999) على هذه الدورة.
وحينما سمح الوقت لي التقيت بكمال الرياحي، في الاستراحة بين جلسات النقاش الممتدة منذ الصباح وحتى المساء، ليحدثني عن حلمه الذي بدأ عام 2005، حينما كان يعمل على إدارة ورشات الكتابة في العالم العربي، إلا أن الظروف لم تكن سانحة لإقامة مثلها في تونس، حتى أخذ هذا المشروع يتبلور تدريجياً حتى عام 2011، فبدأ في إعادة استعادة هذا الحلم –كما يقول- بالعمل على تأسيس ورشة دائمة للكتابة.
وحاول كمال الرياحي أن يحقق الحلم في عدد من النوادي والصالونات بعد التحاقه بالعمل في وزارة الثقافة التونسية، حتى جاء الوقت الذي رأى فيه أنه من المناسب إطلاق بيت الخيال، وهو تقليد قائم في دول الغرب على نهج الصالونات الأدبية، والتي يدشنها عدد من الكتَاب، يستضيف كل منهم أصدقاءه في بيته، إلا أنه مولع بالتغيير في أن يكون لهذا الحلم ميزة خاصة، فرأى أنه من الأفضل أن يكون منتجاً من خلال ورشة للكتابة، ولم يكتف بهذا فقط بل جعله مفتوحاً على كافة الفنون، ليستضيف في كل شهر 15 شاباً، تحت مسمى ما أو موضوع ما، كما حدث في الدورة الأولى كتابة الطفولة والصبا، وهو تركيز على أدب السيرة الذاتية بأشكالها المختلفة، من يوميات ومذكرات، وسير ذاتية، وغير ذلك.
إن استثنائية بيت الخيال تأتي من الهدف الأسمى له وهو صناعة الإبداع، في مناخٍ يوفر لصغار الحمام أن تتعلم التحليق، بالاطلاع على مكتبة المبدع ذاته، ومعرفة قراءاته، ومدراكه، وهو ما يعمل عليه كمال الرياحي، بالإضافة إلى فكرة الإدارة، فهو يدار من تونس، وفي الوقت نفسه من داخل فلسطين، من خلال المترجمة والشاعرة ريم غنايم، وهي مختصة في الأدب الأميركي، إضافة إلى ميزة أخرى وهي قطع المركزية وتجاوزها – كما يقول كمال الرياحي – من خلال كسرها بفتح هذا البيت على الخيال بالمعنى الافتراضي، بأن يكون هناك جانب واقعي، وآخر فضائي، يتيح المشاركة من خلال أحد برامج الدردشة الصوتية والمرئية.
ولأن الواقع يصبح أجمل بتحقيق الأحلام، توافد العديد من شباب تونس ممن هم في العاصمة أو غيرها على هذا الصالون للمشاركة فيه، كما اجتاز المغتربون حواجز المكان ليعلنوا عن أنفسهم من بلدان لا تتحدث بلغة الضاد مثل السويد والهند، وصار يوم الأحد من كل شهر مهرجانا كرنفالياً يعرض فيه كل واحدٍ منهم ما قاله له الخيال فدونه فى إطار تيمة معينة يتم تحديدها، وقراءة بعض النصوص التي تنقلها للعربية ريم غنايم كثمار دالة.
إن حاجتنا إلى ورشات لتدريب الكتابة الإبداعيّة هي حاجة تأسيسيّة تنطلق من راهنيّة واقعنا العربيّ الغائر في معمعاناته. هي حاجة لضبط معالم الكتابة بمفهومها الحاليّ. وهي تأتي لتبرهن فشلَ الثنائيّات التي تفصل بين الرّقمي والورقيّ في ظلّ الانفتاح والانتشار وهندسات الفضاء الافتراضيّ المتعددة لاستقبال النصّ الأدبيّ. في طرح فكرة ورشة الكتابة نكلّف أنفسنا كَسر هالة الأدب.
إن كنت ممن يؤمنون بتحقيق الأحلام، بخلق مجتمع مبدع توحد فيه القراءة الجميع وتؤلف بينهم، فما عليك سوى التخطيط، أن ترسمها على الأوراق، وتشرع في تنفيذها، أن تخلق مجتمعاً يلتقي ليكتب وليسمع كل منهم الآخر، لا أن تبقى بين عوالمك الإبداعية منعزلاً عمن يقرؤون لك.
“من هنا تتأسّس تجربة ورشة الكتابة الإبداعيّة، في بيت الخيال، أولاً وقبل أيّ شيء على تفجير المتعة الكامنة في ممارسة الذّات لعوالم الكتابة وسرقة مفاتيح اللذة من الآخرين والتحرر من استبداد التعريفات للأدب النخبويّ، واكتشاف مواهب الآخرين. في بيت الخيال يساهم الجميع في تقريب الأدب من ذائقة الناس، وخلق الألفة بين النصّ والقارئ”.
ليبقي السؤال: هل يبدأ المبدعون في عالمنا العربي بتحقيق حلمهم الأول بمجتمع يقرأ ويكتب ويفتحون بيوتهم لجمهور قرائهم ليساهموا في قدح شرارة الإبداع ويقدمون للإنسانية أعمالاً خالدة وجيلاً يصنع من بعده جيلاً آخر؟
كمال الرياحي، أستاذ في المعهد العالي للغات بتونس. حصل على شهادة الدراسات المعمقة في النقد الروائي للأدب العربي الحديث. وجائزة القصة القصيرة بالقاهرة عام 2005، وتوج ضمن الفائزين في مسابقة بيروت 39 لسنة 2009، وترجمت أعماله القصصية إلى عدد من اللغات أبرزها الفرنسية والإيطالية والإنجليزية. حيث أصدر أثناءها مجموعتين قصصيتين وهما نوارس الذّاكرة عام 1999، وسرق وجهي عام 2001. وفي مجال الرواية، صدرت له المشرط، وعشيقات الذل عام 2014.
